سالمين عندما يثور

كتبه الدكتور : سعيد الجريري :

سالمين الذي يثور، في هذا المقال، ليس هو الرئيس الجنوبي الأسبق سالم ربيع علي، وليس هو سالمين حسين الحضرمي الحكيم الظريف الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في حضرموت بنكاته السياسية البليغة، كما أنه ليس سالمين المعاري الأمين العام الأسبق للمجلس المحلي بحضرموت الذي اجتمع عليه ممثلو السلطة والمعارضة، فأخرجَوه فوراً، بعد أن استخدم الإذاعة للتعبير عن رأيه، يوم كان الصمت من ذهب، قبل سنوات معدودات.
لكنّ سالمين شخصية فولكلورية ذات فاعلية في مستويات الحياة الشعبية، كما في الثقافة الشعبية ولاسيما الأمثال والحكم، ومن ذلك ما يتردد في حضرموت: ” الشاة شاة سالمين واللبن لسِيْده “، وهو مما ارتبط في دلالة السياق السياسي والاقتصادي، بتراتبية اجتماعية، فسالمين مستعبَد لكنه ذو شاة، غير أن لبنها ليس له وإنما هو لسيده، ذلك الكائن الطفيلي الذي يستحوذ بفاعلية سيادته على شاة سالمين.
(2)
وسالمين الشعبي هذا – وكثيراً ما يتخذ اسماً في البوادي، ولدى الفئات الشعبية البسيطة المستضعفة في الحواضر، فضلاً عن تعرّضه للتصغير أيضاً فيقال” سويلمين “- يقرنه القول الشعبي بحكمة السكوت في لحظة لا تحتمل السكوت، وهي صورة من صور التعكز على الحكمة والعقلانية كي لا يقع في زلل التعبير عن الرأي، وهي صورة سلبية من منظور ما، إيجابية ربما من منظور آخر موازٍ، لكنها ترتبط بمن يُؤْثِر السلامة، متحللاً من اتخاذ أي موقف في أي لحظة، إذ يقال: “سالمين كُلْ تمر”، في كناية متواطأ على دلالتها بين القائل والمقول له، تنبيهاً إلى أن هناك من لا يؤمن جانبه، فينبغي عدم التحدث في وجوده، فالعبارة إذا ما جُرِّد الحرف الأول من كل كلمة من كلماتها الثلاث، شكل تركيب الثلاثة الأحرف المجردة (س ك ت)، فعل أمر بالدارجة ” سكُتْ “. فالسكوت هو المندوب إليه وفق الحكمة الشعبية في مواجهة المكر المحدق أو المتوقع. بل إن فعل الأمر بالسكوت لا يقال تصريحاً، وإنما بمبالغة شديدة في التعمية والتكنية، على طريقة التشفير الحربي، إمعاناً في الحذر المتكئ على ذكاء القائل البلاغي، وفطنة المقول له الذهنية.
(3)
يبدو أن سالمين الفولكلوري كان مستضعفاً، مستلباً، مادياً ومعنوياً، مستباحة حقوقه، مسيطَراً على رأيه، فهو لا يملك إلا صورياً وليس له من حرية التعبير إلا أن يصمت، ليس خياراً من ذات نفسه، وإنما هو مأمور به على وجه استعلائي. لكن سالمين هذا في الحالين، تكتمل صورته فهو واحد وليس اثنين: إنسان مستضعف، لكنه ليس غبياً، فهو ذو قوة كامنة، وهو ذكيّ أيضاً، وهاتان الصفتان هما اللتان تفضيان بسالمين إلى فضاء آخر يخرج فيه من لحظة الكمون والتغابي، لتكتمل طاقة القوة والذكاء، في صيغة يغادر فيها سالمين المربع التقليدي، إلى لحظة ثورية بامتياز، فيستعيد ” شاته ” ويستعيد ” صوته ” أيضاً، فإذ هو سالمين آخر مختلف، لا قِبل للآخرين بسالمينيته الجديدة، التي يغادر بها صورته النمطية المألوفة، فيُحدث صدمة بحجم اللحظة التي يشكل ملامحها تشكيلَ قطيعة ثورية مع مركوم السكونية التي حاصرته في دلالة باردة.
(4)
سالمين عندما يثور، ليس سالمين بكاريزماه السلبية، المأمور بأكل التمر صامتاً، حينما يشرب لبن شاته سيدٌ يستغفل اللحظة. إنه سالمين الجديد ذوالكاريزما الإيجابية الذي يستعيد الشاة من ذلك “السيد ” المستحوذ، ليس اختلاساً أو مخاتلةً، وإنما بصوت عالٍ، حيث لا معنى للصوت الخفيض، بعد تحطيم صنمية السيد المستعبِد المستحوذ المستلِب.
لكن سالمين لا يكون سالمين الجديد، إلا بوعي اللحظة وعياً عميقاً، وعي العلاقة الجدلية بين الثروة (=الشاة) والحرية (=الصوت)، كما تبدو في المدلول الفلكلوري لشخصية سالمين، في النموذجين التراثيين السالفين.
سالمين يملك ثروته وحريته الآن، فهو سيّد لحظته، وله حضوره على امتداد الخارطة الثائرة، حيث لا استهزاء به على شاكلة ” سالمينا كَلْها زرامبو، وزرامبو كَلْ سالمينا “!!.
ولعل مما يلفت في معجم الأسماء العربية أن سالمين اسم حضرمي الشيوع بامتياز، لكن دلالة سالمين الحضرمي ممتدة في تجليات عربية هنا وهناك، لعلها تفضي إلى توصيف اللحظة الراهنة بأنها زمن سالمين العربي، لكن السؤال الآن هو:هل يغادر سالمين الحضرمي لحظة: سالمينا كَلْها زرامبو، وزرامبو كَلْ سالمينا، والشاة شاة سالمين واللبن لسيده، وسالمين كُلْ تمر؟!.. الإجابة مشجعة.

شكراً يا قيس موضوع رائع مزيد من تلك الروائع الطيبة

شكراً لك اخي قيس


لك مني اجمل تحية

أهدتني الحياة أشخاص تذوقت معهم

المواضيع الجميلة والرائعة
شكرا الاخ قيس على الموضوع
الجميل